الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويقال: {وَلاَ يُلَقَّاهَا} أي لا يعطى الأعمال الصالحة إلاَّ الصابرون على الطاعات وعن زينة الدنيا.ويقال: ولا يلقاها، يعني: ولا يلقن بهذه الكلمة إلاَّ الصابرون عن زينة الدنيا يقول الله تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ} يعني: قارون {وَبِدَارِهِ الأرض} يعني: بقارون وبداره وأمواله، فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل إلى يوم القيامة {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} يعني: لم يكن له جنة وأعوان يمنعونه من عذاب الله عز وجل: {وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} يعني: وما كان قارون من الممتنعين مما نزل به من عذاب الله.قوله عز وجل: {وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بالامس} حين رأوه في زينته وقالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله} قال القتبي: قد اختلف في هذه اللفظة.فقال الكسائي: معناها ألم تر أن الله يبسط، ويكأنه يعني: ألم تر أنه لا يفلح الكافرون. روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنه قال: {وَيْكَأَنَّ الله} يعني: أو لا يعلم أن الله {يَبْسُطُ} وهذا شاهد لقول الكسائي. وذكر الخليل بن أحمد أنها مفصولة وي ثم يبتدىء فيقول: كأن الله.وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الله يبسط {الرزق لِمَن يَشَاء} كأنه لا يفلح الكافرون. وقال وي صلة في الكلام، وهذا شاهد لقول الخليل. وقال الزجاج: الذي قاله الخليل أجود، وهو أن قوله وي مفصولة من كان، لأن من يدم على شيء يقول: وي يعاتب الرجل على ما سلف يقول: وي كأنك قصدت مكروهًا.وقال مقاتل: معناه ولكن الله يبسط الرزق لمن يشاء {مِنْ عِبَادِهِ} يعني: يوسعه على من يشاء من عباده {وَيَقْدِرُ} يعني: يقتر ويقال: ويضيق على من يشاء يعني: لولا أن الله منَّ علينا لكنا مثل قارون في العذاب {لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} معهم.ويقال: لولا منَّ الله علينا بالإيمان، لكنا مثل قارون في العذاب.ويقال لولا أن منَّ الله علينا، يعني: عصمنا مثل ما كان عليه من البطر والبغي، لخسف بنا كما خسف به.قال قرأ عاصم في رواية حفص بنصب الخاء، وكسر السين {لَخَسَفَ الله بِنَا} وقرأ الباقون بالضم على فعل ما لم يسم فاعله {وَيْكَأَنَّهُ} يعني: ولكنه {لاَ يُفْلِحُ الكافرون} أي الجاحدون للنعم.قوله عز وجل: {تِلْكَ الدار الآخرة} يعني: الجنة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض} يعني: نعطيها للذين لا يريدون تعظيمًا وتكبرًا، وتجبرًا فيها عن الإيمان {وَلاَ فَسَادًا} في الأرض يعني: لا يريدون المعاصي في الدنيا.وروى وكيع عن سفيان عن مسلم البطين {لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض}.يعني: التكبر بغير حق، {وَلاَ فَسَادًا} قال: أخذ المال بغير حق.ويقال: العلو الخطرات في القلب، والفساد فعل الأعضاء {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} يعني: الجنة للذين يتقون الشرك والمعاصي. ويقال: عاقبة الأمر، وما يستقر عليه للمتقين الموحدين. ويقال في العاقبة المحمودة للمتقين.قوله عز وجل: {مَن جَاء بالحسنة} يعني: بكلمة الإخلاص وهي قول لا إله إلا الله {فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} وقد ذكرناه {وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى} يعني: لا يثاب {الذين عَمِلُوا السيئات إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: يصيبهم بأعمالهم.قوله عز وجل: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} يعني: أنزل عليك القرآن.ويقال: أمرك بالعمل بما في القرآن {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ}. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الموت. وقال السدي: إلى معاد يعني: الجنة. وهكذا روي عن مجاهد. وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال: يعني: إلى مكة. وقال القتبي: معاد الرجل بلده، لأنه يتصرف في البلاد، وينصرف في الأرض ثم يعود إلى بلده. والعرب تقول: ردّ فلان إلى معاده، يعني: إلى بلده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة إلى المدينة اغتم لمفارقته مكة، لأنها مولده وموطنه، ومنشأه وبها عشيرته، واستوحش فأخبر الله تعالى في طريقه أنه سيرده إلى مكة، وبشره بالظهور والغلبة.ثم قال تعالى: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى} أي يعني: بالرسالة والقرآن، وذلك حين قالوا: إنك في ضلال مبين {وَمَنْ هُوَ في ضلال مُّبِينٍ} وذلك حين قالوا: فنزل {قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى} يعني: فأنا الذي جئت بالهدى، وهو يعلم بمن هو في ضلال مبين نحن أو أنتم.ثم قال عز وجل: {وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} يعني: أن يلقى وينزل عليك القرآن {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} ويقال في الآية تقديم.ومعناه: أن الذي فرض عليك القرآن يعني: جعلك نبيًا ينزل عليك القرآن، وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبيًا بوحي إليك، لرادك إلى معاد إلى مكة ظاهرًا قاهرًا.ويقال: {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} يعني: لكن دين ربك رحمة، واختارك لنبوته، وأنزل عليك الوحي، ثم قال: {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيرًا للكافرين} يعني: عونًا للكافرين حين دعوه إلى دين آبائه {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله} يعني: لا يصرفنك عن آيات الله القرآن والتوحيد {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} أي: بعد ما أنزل إليك جبريل عليه السلام بالقرآن {وادع إلى رَبّكَ} يعني: ادع الخلق إلى توحيد ربك {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} يعني: لا تكونن مع المشركين على دينهم {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} أي: لا تعبد غير الله.ثم وحد نفسه فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} يعني: لا خالق ولا رازق غيره {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} يعني: تهلك جميع الأشياء إلا الله، فإنه لم يزل ولا يزال، ويقال: كل شيء هالك إلا وجهه، أي كل عمل هالك لا ثواب له إلا ما يراد به وجه الله عز وجل.ويقال: كل شيء متغير إلا ملكه، فإن ملكه لا يتغير، ولا يزال إلى غيره أبدًا {لَهُ الحكم} أي: له القضاء، وله نفاذ الأمر والحكم على ما يريد {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يعني: إليه المرجع في الآخرة ليجازيكم بأعمالكم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ القَصَصِ كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ مُوسَى وَكَذَّبَ، وَلَمْ يَبْقَ مَلَكٌ فِي السموات وَالأرْضِ، إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، أنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِي قوله: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وَالحَمْدُ لله وَحْدَهُ، وَصَلَّى الله عَلَى مَنْ لا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَحَسْبُنَا الله، وَنِعْمَ الوَكِيلُ، ولاَ حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بالله العَلِيِّ العَظِيمِ، صَدَقَ الله جَلَّ رَبُّنا، وَهُوَ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ، وَصَدَقَ رُسُلُهُ قَوْلُهُ صِدْقٌ وَوَعْدُهُ حَقٌّ». اهـ.
وقال آخر: فلا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن، فأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدّثه نفسه بالفرح.{وابتغ} أي: اطلب طلبًا تحمد نفسك فيه {فيما آتاك الله} أي: الملك الذي الأمر كله بيده من الغنى والثروة {الدار الآخرة} بأن تقوم بشكر الله فيما أنعم الله عليك وتنفقه في رضا الله تعالى فيجازيك بالجنة {ولا تنس} أي: ولا تترك {نصيبك من الدنيا} قال مجاهد: لا تترك أن تعمل في الدنيا للآخرة حتى تنجو من العذاب لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا أن يعمل للآخرة، وقال السدّيّ: بالصدقة وصلة الرحم.وقال عليّ رضي الله تعالى عنه وكرم الله وجهه لا تنسى صحتك وقوّتك وشبابك وغناك أن تطلب بها الآخرة، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الكبر ومن الحياة قبل الموت فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة والنار، وعن ميمون الأزدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه «اغتنم خمسًا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك»، وقال الحسن: أمر أن يقدّم الفضل ويمسك ما يغنيه، وقال منصور بن زادان قوتك وقوت أهلك {وأحسن} أي: أوقع الإحسان بدفع المال إلى المحاويج والإنفاق في جميع الطاعات ويدخل في ذلك الإعانة بالجاه وطلاقة الوجه وحسن اللقاء وحسن الذكر {كما أحسن الله} الجامع لصفات الكمال {إليك} بأن تعطي عطاء من لا يخاف الفقر كما أوسع الله عليك {ولا تبغ} أي: ولا ترد إرادة ما، {الفساد في الأرض} بتقتير ولا تبذير ولا تكبر على عباد الله تعالى ولا تحقير، ثم أتبع ذلك علته مؤكدًا لأنّ أكثر المفسدين يبسط لهم في الدنيا وأكثر الناس يستبعد أن يبسط فيها لغير محبوب فقيل {إن الله} أي: العالم بكل شيء القدير على كل شيء {لا يحب المفسدين} أي: لا يعاملهم معاملة من يحبه، وقيل أن القائل له هذا موسى عليه السلام، وقيل مؤمنو قومه، وكيف كان فقد جمع في هذا الوعظ ما فيه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل زاد عليه كفر النعمة بأن.{قال} أي: قارون في الجواب {إنما أوتيته} أي: هذا المال {على علم} حاصل {عندي} فإنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة أي: فرآني له أهلًا ففضلني بهذا المال عليكم كما فضلني بغيره، وقيل هو علم الكيمياء، وقال سعيد ابن المسيب كان موسى يعلم الكيمياء فعلَّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلَّم كالب ابن يوفنا ثلثه وعلَّم قارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان ذلك سبب أمواله، وقيل على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وأنواع المكاسب، ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله تعالى: {أو لم يعلم أنّ الله} أي: بما له من صفات الجلال والعظمة والكمال {قد أهلك} وقوله تعالى: {من قبله من القرون} فيه تنبيه على أنه لم يتعظ مع مشاهدته للمهلكين الموصوفين مع قرب الزمان وبعده وقوله تعالى: {ومن هو أشدّ منه قوة} أي: في البدن والمعاني من العلم وغيره والأنصار والخدم {وأكثر جمعًا} في المال والرجال آخرهم فرعون الذي شاهده في ملكه وحقق أمره يوم هلكه فيه تعجيب وتوبيخ على اغتراره بقوّته وكثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأ في التوراة وكان أعلمهم بها وسمعه من حفاظ التواريخ واختلف في معنى قوله عز وجل: {ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون} فقال قتادة يدخلون النار بغير سؤال ولا حساب، وقال مجاهد لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن: لا يسئلون سؤال استعلام وإنما يسئلون سؤال توبيخ وتقريع، وقيل المراد أنّ الله تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة به إلى سؤالهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه تعالى عالم بكل المعلومات فلا حاجة إلى السؤال، فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} أجيب: بحمل ذلك على وقتين، وقال أبو مسلم: السؤال قد يكون للمحاسبة وقد يكون للتوبيخ والتقريع وقد يكون للاستعتاب، قال ابن عادل: وأليق الوجوه بهذه الآية الاستعتاب لقوله تعالى: {ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون} هذا يوم لا ينطقون ولايؤذن لهم فيعتذرون.
|